تفسير قوله تعالى لا يسمعون إلى الملأ الأعلى والقراءات فيها

التفسير الكبير ، الصفحة : 108 عدد الزيارات: 27427 طباعة المقال أرسل لصديق

وأما قوله : ( لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ) ففيه مسائل : المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم " لا يسمعون " بتشديد السين والميم وأصله يتسمعون ، فأدغمت التاء في السين لاشتراكهما في الهمس ، والتسمع تطلب السماع ، يقال : تسمع سمع أو لم يسمع ، والباقون بتخفيف السين ، واختار أبو عبيد التشديد في يسمعون ، قال : لأن العرب تقول : تسمعت إلى فلان ، ويقولون : سمعت فلانا ، ولا يكادون يقولون : سمعت إلى فلان ، وقيل : في تقوية هذه القراءة إذا نفي التسمع ، فقد نفي سمعه .
وحجة القراءة الثانية قوله تعالى : ( إنهم عن السمع لمعزولون ) [ الشعراء : 212 ] وروى مجاهد عن ابن عباس : أن الشياطين يسمعون إلى الملأ الأعلى ثم يمنعون فلا يسمعون ، وللأولين أن يجيبوا فيقولون : التنصيص على كونهم معزولين عن السمع لا يمنع من كونهم معزولين أيضا عن التسمع بدلالة هذه الآية ، بل هو أقوى في ردع الشياطين ومنعهم من استماع أخبار السماء ، فإن الذي منع من الاستماع فبأن يكون ممنوعا من السمع أولى .
المسألة الثانية : الفرق بين قولك سمعت حديث فلان ، وبين قولك : سمعت إلى حديثه ، بأن قولك سمعت حديثه يفيد الإدراك ، وسمعت إلى حديثه يفيد الإصغاء مع الإدراك .
المسألة الثالثة : في قوله : ( لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ) قولان : الأول : وهو المشهور أن تقدير الكلام لئلا يسمعوا ، فلما حذف الناصب عاد الفعل إلى الرفع كما قال : ( يبين الله لكم أن تضلوا ) [ النساء : 176 ] وكما قال : ( رواسي أن تميد بكم ) [ النحل : 15 ] قال صاحب الكشاف : حذف أن واللام كل واحد منهما جائز بانفراده .
أما اجتماعهما فمن المنكرات التي يجب صون القرآن عنها .
والقول الثاني : وهو الذي اختاره صاحب الكشاف أنه كلام مبتدأ منقطع عما قبله ، وهو حكاية حال المسترقة للسمع وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة ويتسمعوا وهم مقذوفون بالشهب ، مدحورون عن ذلك المقصود .
المسألة الرابعة : الملأ الأعلى الملائكة ؛ لأنهم يسكنون السماوات .
وأما الإنس والجن فهم الملأ الأسفل ؛ لأنهم سكان الأرض .
واعلم أنه تعالى وصف أولئك الشياطين بصفات ثلاث : الأولى : أنهم لا يسمعون .
الثانية : أنهم يقذفون من كل جانب دحورا ، وفيه أبحاث : الأول : قد ذكرنا معنى الدحور في سورة الأعراف عند قوله : ( اخرج منها مذءوما مدحورا ) [ الأعراف : 18 ] قال المبرد : الدحور أشد الصغار والذل .
وقال ابن قتيبة دحرته دحرا ودحورا أي دفعته وطردته .
البحث الثاني : في انتصاب قوله : ( دحورا ) وجوه : الأول : أنه انتصب بالمصدر على معنى يدحرون دحورا ، ودل على الفعل قوله تعالى : ( ويقذفون ) .
الثاني : التقدير ويقذفون للدحور ثم حذف اللام .
الثالث : قال مجاهد : دحورا مطرودين ، فعلى هذا هو حال سميت بالمصدر كالركوع والسجود والحضور .
البحث الثالث : قرأ أبو عبد الرحمن السملي دحورا بفتح الدال ، قال الفراء : كأنه قال : يقذفون يدحرون بما يدحر ، ثم قال : ولست أشتهي الفتح ؛ لأنه لو وجد ذلك على صحة لكان فيها الباء ، كما تقول : يقذفون بالحجارة ولا تقول : يقذفون الحجارة إلا أنه جائز في الجملة كما قال الشاعر : نغالي اللحم للأضياف نيئا أي نغالي باللحم .
الصفة الثالثة : قوله تعالى : ( ولهم عذاب واصب ) والمعنى أنهم مرجومون بالشهب وهذا العذاب مسلط عليهم على سبيل الدوام ، وذكرنا تفسير الواصب في سورة النحل عند قوله تعالى : ( وله الدين واصبا ) [ النحل : 52 ] قالوا كلهم : إنه الدائم ، قال الواحدي : ومن فسر الواصب بالشديد والموجع فهو معنى وليس بتفسير .
ثم قال تعالى : ( إلا من خطف الخطفة ) ذكرنا معنى الخطف في سورة الحج ، قال الزجاج : وهو أخذ الشيء بسرعة ، وأصل خطف اختطف ، قال صاحب الكشاف : " من " في محل الرفع بدل من الواو في لا يسمعون أي لا يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي خطف الخطفة أي اختلس الكلمة على وجه المسارقة ( فأتبعه ) يعني لحقه وأصابه ، يقال : تبعه وأتبعه إذا مضى في أثره ، وأتبعه إذا لحقه وأصله من قوله تعالى : ( فأتبعه الشيطان ) [ الأعراف : 175 ] وقد مر تفسيره .
وقوله تعالى : ( شهاب ثاقب ) قال الحسن : ثاقب أي مضيء ، وأقول : سمي ثاقبا بنوره الهواء ، قال ابن عباس في تفسير قوله : ( النجم الثاقب ) [ الطارق : 3 ] قال : إنه رجل سمي بذلك ؛ لأنه يثقب بنوره سمك سبع سماوات والله أعلم .