الاختلاف في المراد من دعاء الإنسان بالشر

التفسير الكبير ، الصفحة : 130 عدد الزيارات: 36046 طباعة المقال أرسل لصديق

( ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا ) قوله تعالى : ( ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا ) .
وفي الآية مباحث : البحث الأول : اعلم أن وجه النظم هو أن الإنسان بعد أن أنزل الله عليه القرآن وخصه بهذه النعمة العظيمة والكرامة الكاملة ، قد يعدل عن التمسك بشرائعه والرجوع إلى بياناته ، ويقدم على ما لا فائدة فيه فقال : ( ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير ) .
البحث الثاني : اختلفوا في المراد من دعاء الإنسان بالشر على أقوال : القول الأول : المراد منه : النضر بن الحارث حيث قال : ( وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ) [ الأنفال : 32 ] فأجاب الله دعاءه وضربت رقبته ، فكان بعضهم يقول : ائتنا بعذاب الله .
وآخرون يقولون : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين .
وإنما فعلوا ذلك للجهل واعتقاد أن محمدا كاذب فيما يقول .
والقول الثاني : المراد أنه في وقت الضجر يلعن نفسه وأهله وولده وماله ، ولو استجيب له في الشر كما يستجاب له في الخير لهلك .
وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دفع إلى سودة بنت زمعة أسيرا فأقبل يئن بالليل فقالت له : ما لك تئن ؟ فشكى ألم القيد فأرخت له من كتافه ، فلما نامت أخرج يده وهرب ، فلما أصبح النبي عليه الصلاة والسلام دعا به فأعلم بشأنه ، فقال عليه الصلاة والسلام : " اللهم اقطع يدها " فرفعت سودة يدها تتوقع أن يقطع الله يدها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إني سألت الله أن يجعل دعائي على من لا يستحق عذابا من أهلي رحمة لأني بشر أغضب كما تغضبون ، فلترد سودة يدها " .
والقول الثالث : أقول : يحتمل أن يكون المراد : أن الإنسان قد يبالغ في الدعاء طلبا لشيء يعتقد أن خيره فيه ، مع أن ذلك الشيء يكون منبع شره وضرره ، وهو يبالغ في طلبه لجهله بحال ذلك الشيء ، وإنما يقدم على مثل هذا العمل لكونه عجولا مغترا بظواهر الأمور غير متفحص عن حقائقها وأسرارها .
البحث الرابع : القياس : إثبات الواو في قوله : ( ويدع ) إلا أنه حذف في المصحف من الكتابة ، لأنه لا يظهر في اللفظ ، أما لم تحذف في المعنى لأنها في موضع الرفع ، ونظيره : ( سندع الزبانية ) [ العلق : 18 ] ( وسوف يؤت الله المؤمنين ) [ النساء : 146 ] ( يوم ينادي المنادي ) [ ق : 41 ] ( فما تغن النذر ) [ القمر : 5 ] ولو كان بالواو والياء لكان صوابا هذا كلام الفراء .
وأقول : إن هذا يدل على أنه سبحانه قد عصم هذا القرآن المجيد عن التحريف والتغيير فإن إثبات الياء والواو في أكثر ألفاظ القرآن وعدم إثباتهما في هذه المواضع المعدودة يدل على أن هذا القرآن نقل كما سمع ، وأن أحدا لم يتصرف فيه بمقدار فهمه وقوة عقله .
ثم قال تعالى : ( وكان الإنسان عجولا ) وفي هذا الإنسان قولان : القول الأول : آدم عليه السلام ، وذلك لأنه لما انتهت الروح إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه فذهب لينهض فلم يقدر ، فهو قوله : ( وكان الإنسان عجولا ) .
والقول الثاني : أنه محمول على الجنس ، لأن أحدا من الناس لا يعرى عن عجلة ، ولو تركها لكان تركها أصلح له في الدين والدنيا ، وأقول : بتقدير أن يكون المراد هو القول الأول ، كان المقصود عائدا إلى القول الثاني ، لأنا إذا حملنا الإنسان على آدم عليه الصلاة والسلام كان المعنى أن آدم الذي كان أصل البشر لما كان موصوفا بهذه العجلة وجب أن تكون هذه صفة لازمة للكل ، فكان المقصود عائدا إلى القول الثاني ، والله أعلم .