تفسير قوله تعالى أولم تروا والقراءات فيها

التفسير الكبير ، الصفحة : 33 عدد الزيارات: 19179 طباعة المقال أرسل لصديق

( أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون ) قوله تعالى : ( أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون ) في الآية مسائل : المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما خوف المشركين بالأنواع الأربعة المذكورة من العذاب أردفه بذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلي وتدبير أحوال الأرواح والأجسام ، ليظهر لهم أن مع كمال هذه القدرة القاهرة ، والقوة الغير المتناهية لا يعجز عن إيصال العذاب إليهم على أحد تلك الأقسام الأربعة .
المسألة الثانية : قرأ حمزة والكسائي : ( أولم تروا ) بالتاء على الخطاب ، وكذلك في سورة العنكبوت : ( أولم تروا كيف يبدأ الله الخلق ثم يعيده ) [ العنكبوت : 19 ] بالتاء على الخطاب ، والباقون بالياء فيهما كناية عن الذين مكروا السيئات ، وأيضا أن ما قبله غيبة وهو قوله : ( أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم ) [النحل : 45 - 46] فكذا قوله : ( أولم يروا ) وقرأ أبو عمرو وحده : ( تتفيأ ) بالتاء والباقون بالياء ، وكلاهما جائز لتقدم الفعل على الجمع .
المسألة الثالثة : قوله : ( أولم يروا إلى ما خلق الله ) لما كانت الرؤية ههنا بمعنى النظر وصلت بإلى ; لأن المراد به الاعتبار ، والاعتبار لا يكون بنفس الرؤية حتى يكون معها نظر إلى الشيء وتأمل لأحواله ، وقوله : ( إلى ما خلق الله من شيء ) قال أهل المعاني : أراد من شيء له ظل من جبل وشجر وبناء وجسم قائم ، ولفظ الآية يشعر بهذا القيد ، لأن قوله : ( من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل ) يدل على أن ذلك الشيء كثيف يقع له ظل على الأرض .
وقوله : ( يتفيأ ظلاله ) إخبار عن قوله : ( شيء ) وليس بوصف له ، ويتفيأ يتفعل من الفيء يقال : فاء الظل يفيء فيئا إذا رجع وعاد بعدما نسخه ضياء الشمس ، وأصل الفيء الرجوع ، ومنه فيء المولى وذكرنا ذلك في قوله تعالى : ( فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم ) [ البقرة : 226 ] وكذلك فيء المسلمين لما يعود على المسلمين من مال من خالف دينهم ، ومنه قوله تعالى : ( وما أفاء الله على رسوله منهم ) [ الحشر : 6 ] وأصل هذا كله من الرجوع .
إذا عرفت هذا فنقول : إذا عدي فاء فإنه يعدى إما بزيادة الهمزة أو بتضعيف العين .
أما التعدية بزيادة الهمزة كقوله : ( ما أفاء الله ) [ الحشر : 6 ] وأما بتضعيف العين فكقوله : فيأ الله الظل فتفيأ وتفيأ مطاوع فيأ .
قال الأزهري : تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار ، فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشي بعدما انصرفت عنه الشمس ، والظل ما يكون بالغداة وهو ما لم تنله الشمس كما قال الشاعر : فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ولا الفيء من برد العشي تذوق قال ثعلب : أخبرت عن أبي عبيدة أن رؤبة قال : كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء ، وما لم يكن عليه الشمس فهو ظل ، ومنهم من أنكر ذلك ، فإن أبا زيد أنشد للنابغة الجعدي : فسلام الإله يغدو عليهم وفيوء الغروس ذات الظلال فهذا الشعر قد أوقع فيه لفظ الفيء على ما لم تنسخه الشمس ; لأن ما في الجنة من الظل ما حصل بعد أن كان زائلا بسبب نور الشمس ، وتقول العرب في جمع فيء : أفياء ، وهي للعدد القليل ، وفيوء للكثير كالنفوس والعيون ، وقوله : ( ظلاله ) أضاف الظلال إلى مفرد ، ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال ، وإنما حسن هذا ; لأن الذي عاد إليه الضمير وإن كان واحدا في اللفظ وهو قوله : إلى ما خلق الله ، إلا أنه كثير في المعنى ، ونظيره قوله تعالى : ( لتستووا على ظهوره ) [ الزخرف : 13 ] فأضاف الظهور وهو جمع ، إلى ضمير مفرد ، لأنه يعود إلى واحد أريد به الكثرة وهو قوله : ( ما تركبون ) هذا كله كلام الواحدي وهو بحث حسن .