معنى قوله تعالى مالك يوم الدين

التفسير الكبير ، الصفحة : 192 عدد الزيارات: 93429 طباعة المقال أرسل لصديق

الفصل الرابع في تفسير قوله : مالك يوم الدين ، وفيه فوائد الفائدة الأولى : قوله : ( مالك يوم الدين ) أي مالك يوم البعث والجزاء ، وتقريره أنه لا بد من الفرق بين المحسن والمسيء ، والمطيع والعاصي ، والموافق والمخالف ، وذلك لا يظهر إلا في يوم الجزاء ، كما قال تعالى : ( ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) [ النجم : 31 ] وقال تعالى : ( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ) [ ص : 8 ] وقال : ( إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى ) [ طه : 15 ] واعلم أن من سلط الظالم على المظلوم ثم إنه لا ينتقم منه فذاك إما للعجز أو للجهل ، أو لكونه راضيا بذلك الظلم ، وهذه الصفات الثلاث على الله تعالى محال ، فوجب أن ينتقم للمظلومين من الظالمين ، ولما لم يحصل هذا الانتقام في دار الدنيا وجب أن يحصل في دار الأخرى بعد دار الدنيا ، وذلك هو المراد بقوله : ( مالك يوم الدين ) وبقوله : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ) الآية [ الزلزلة : 7 ] روي أنه يجاء برجل يوم القيامة فينظر في أحوال نفسه فلا يرى لنفسه حسنة البتة ، فيأتيه النداء ، يا فلان ادخل الجنة بعملك ، فيقول : إلهي ، ماذا عملت ؟ فيقول الله تعالى : ألست لما كنت نائما تقلبت من جنب إلى جنب ليلة كذا فقلت في خلال ذلك " الله " ثم غلبك النوم في الحال فنسيت ذلك ؟ أما أنا فلا تأخذني سنة ولا نوم فما نسيت ذلك ، وأيضا يؤتى برجل وتوزن حسناته وسيئاته فتخف حسناته فتأتيه بطاقة فتثقل ميزانه فإذا فيها شهادة أن لا إله إلا الله ، فلا يثقل مع ذكر الله غيره .
واعلم أن الواجبات على قسمين : حقوق الله تعالى ، وحقوق العباد .
أما حقوق الله تعالى فمبناها على المسامحة ؛ لأنه تعالى غني عن العالمين ، وأما حقوق العباد فهي التي يجب الاحتراز عنها .
روي أن أبا حنيفة رضي الله عنه كان له على بعض المجوس مال ، فذهب إلى داره ليطالبه به ، فلما وصل إلى باب داره وقع على نعله نجاسة ، فنفض نعله فارتفعت النجاسة عن نعله ووقعت على حائط دار المجوسي فتحير أبو حنيفة وقال : إن تركتها كان ذلك سببا لقبح جدار هذا المجوسي ، وإن حككتها انحدر التراب من الحائط ، فدق الباب ، فخرجت الجارية ، فقال لها : قولي لمولاك : إن أبا حنيفة بالباب ، فخرج إليه وظن أنه يطالبه بالمال ، فأخذ يعتذر ، فقال أبو حنيفة رضي الله عنه : هاهنا ما هو أولى ، وذكر قصة الجدار ، وأنه كيف السبيل إلى تطهيره ، فقال المجوسي : فأنا أبدأ بتطهير نفسي ، فأسلم في الحال .
والنكتة فيه أن أبا حنيفة لما احترز عن ظلم المجوسي في ذلك القدر القليل من الظلم فلأجل تركه ذلك انتقل المجوسي من الكفر إلى الإيمان ، فمن احترز عن الظلم كيف يكون حاله عند الله تعالى .
الفائدة الثانية : اختلف القراء في هذه الكلمة ، فمنهم من قرأ : ( مالك يوم الدين ) ومنهم من قرأ : " ملك يوم الدين " .
حجة من قرأ " مالك " وجوه : الأول : أن فيه حرفا زائدا ، فكانت قراءته أكثر ثوابا .
الثاني أنه يحصل في القيامة ملوك كثيرون .
أما المالك الحق ليوم الدين فليس إلا الله .
الثالث : المالك قد يكون ملكا وقد لا يكون ، كما أن الملك قد يكون مالكا وقد لا يكون ، فالملكية والمالكية قد تنفك كل واحدة منهما عن الأخرى ، إلا أن المالكية سبب لإطلاق التصرف ، والملكية ليست كذلك ، فكان المالك أولى .
الرابع : أن الملك ملك للرعية ، والمالك مالك للعبيد ، والعبد أدون حالا من الرعية ، فوجب أن يكون القهر في المالكية أكثر منه في الملكية ، فوجب أن يكون المالك أعلى حالا من الملك .
الخامس : أن الرعية يمكنهم إخراج أنفسهم عن كونهم رعية لذلك الملك باختيار أنفسهم ، أما المملوك فلا يمكنه إخراج نفسه عن كونه مملوكا لذلك المالك باختيار نفسه ، فثبت أن القهر في المالكية أكمل منه في الملكية .
السادس : أن الملك يجب عليه رعاية حال الرعية ، قال عليه الصلاة والسلام : " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " ولا يجب على الرعية خدمة الملك .
أما المملوك فإنه يجب عليه خدمة المالك وأن لا يستقل بأمر إلا بإذن مولاه ، حتى إنه لا يصح منه القضاء والإمامة والشهادة ، وإذا نوى مولاه السفر يصير هو مسافرا ، وإن نوى مولاه الإقامة صار هو مقيما ؛ فعلمنا أن الانقياد والخضوع في المملوكية أتم منه في كونه رعية ، فهذه هي الوجوه الدالة على أن المالك أكمل من الملك .
وحجة من قال إن الملك أولى من المالك وجوه : الأول : أن كل واحد من أهل البلد يكون مالكا ، أما الملك لا يكون إلا أعظم الناس وأعلاهم فكان الملك أشرف من المالك .
الثاني : أنهم أجمعوا على أن قوله تعالى : ( قل أعوذ برب الناس ملك الناس ) [ الناس : 1 ] لفظ الملك فيه متعين ولولا أن الملك أعلى حالا من المالك وإلا لم يتعين .
الثالث : الملك أولى لأنه أقصر ، والظاهر أنه يدرك من الزمان ما تذكر فيه هذه الكلمة بتمامها ، بخلاف المالك فإنها أطول ، فاحتمل أن لا يجد من الزمان ما يتم فيه هذه الكلمة ، هكذا نقل عن أبي عمرو ، وأجاب الكسائي بأن قال : إني أشرع في ذكر هذه الكلمة فإن لم أبلغها فقد بلغتها حيث عزمت عليها ، نظيره في الشرعيات من نوى صوم الغد قبل غروب الشمس من اليوم في أيام رمضان لا يجزيه ؛ لأنه في هذا اليوم مشتغل بصوم هذا اليوم ، فإذا نوى صوم الغد كان ذلك تطويلا للأمل ، أما إذا نوى بعد غروب الشمس فإنه لا يجزيه ؛ لأنه وإن كان ذلك تطويلا للأمل إلا أنه خرج عن الصوم بسبب غروب الشمس ، ويجوز أن يموت في تلك الليلة ، فيقول : إن لم أبلغ إلى اليوم فلا أقل من أن أكون على عزم الصوم ، كذا ههنا يشرع في ذكر قوله " مالك " فإن تممها فذاك وإن لم يقدر على إتمامها كان عازما على الإتمام وهو المراد .
ثم نقول : إنه يتفرع على كونه ملكا أحكام ، وعلى كونه مالكا أحكام أخر .
أما الأحكام المتفرعة على كونه ملكا فوجوه : الأول : أن السياسات على أربعة أقسام : سياسة الملاك ، وسياسة الملوك ، وسياسة الملائكة ، وسياسة ملك الملوك .
فسياسة الملوك أقوى من سياسة الملاك ؛ لأنه لو اجتمع عالم من المالكين فإنهم لا يقاومون ملكا واحدا ، ألا ترى أن السيد لا يملك إقامة الحد على مملوكه عند أبي حنيفة ، وأجمعوا على أن الملك يملك إقامة الحدود على الناس ، وأما سياسة الملائكة فهي فوق سياسات الملوك ؛ لأن عالما من أكابر الملوك لا يمكنهم دفع سياسة ملك واحد ، وأما سياسة ملك الملوك فإنها فوق سياسات الملائكة ، ألا ترى إلى قوله تعالى : ( يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ) [ النبأ : 38 ] وقوله تعالى : ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) [ البقرة : 255 ] وقال في صفة الملائكة : ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) [ الأنبياء : 28 ] فيا أيها الملوك لا تغتروا بمالكم من المال والملك فإنكم أسراء في قبضة قدرة مالك يوم الدين ، ويا أيها الرعية إذا كنتم تخافون سياسة الملك أفما تخافون سياسة ملك الملوك الذي هو مالك يوم الدين .
الحكم الثاني من أحكام كونه تعالى ملكا : أنه ملك لا يشبه سائر الملوك لأنهم إن تصدقوا بشيء انتقص ملكهم ، وقلت خزائنهم ؛ أما الحق سبحانه وتعالى فملكه لا ينتقص بالعطاء والإحسان بل يزداد ، بيانه أنه تعالى إذا أعطاك ولدا واحدا لم يتوجه حكمه إلا على ذلك الولد الواحد ، أما لو أعطاك عشرة من الأولاد كان حكمه وتكليفه لازما على الكل ، فثبت أنه تعالى كلما كان أكثر عطاء كان أوسع ملكا .
الحكم الثالث من أحكام كونه ملكا : كمال الرحمة ، والدليل عليه آيات : إحداها : ما ذكر في هذه السورة من كونه ربا رحمانا رحيما .
وثانيها : قوله تعالى : ( هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم ) [ الحشر : 22 ] ثم قال بعده : ( هو الله الذي لا إله إلا هو الملك ) [ الحشر : 23 ] ثم ذكر بعده كونه قدوسا عن الظلم والجور ثم ذكر بعده كونه سلاما ، وهو الذي سلم عباده من ظلمه وجوره ، ثم ذكر بعده كونه مؤمنا ، وهو الذي يؤمن عبيده عن جوره وظلمه ، فثبت أن كونه ملكا لا يتم إلا مع كمال الرحمة .
وثالثها : قوله تعالى : ( الملك يومئذ الحق للرحمن ) [ الفرقان : 26 ] لما أثبت لنفسه الملك أردفه بأن وصف نفسه بكونه رحمانا ، يعني : إن كان ثبوت الملك له في ذلك اليوم يدل على كمال القهر ، فكونه رحمانا يدل على زوال الخوف وحصول الرحمة .
ورابعها : قوله تعالى : ( قل أعوذ برب الناس ملك الناس ) [ الناس : 1 ] فذكر أولا كونه ربا للناس ثم أردفه بكونه ملكا للناس ، وهذه الآيات دالة على أن الملك لا يحسن ولا يكمل إلا مع الإحسان والرحمة ، فيا أيها الملوك اسمعوا هذه الآيات وارحموا هؤلاء المساكين ولا تطلبوا مرتبة زائدة في الملك على ملك الله تعالى .
الحكم الرابع للملك : أنه يجب على الرعية طاعته فإن خالفوه ولم يطيعوه وقع الهرج والمرج في العالم وحصل الاضطراب والتشويش ودعا ذلك إلى تخريب العالم وفناء الخلق ، فلما شاهدتم أن مخالفة الملك المجازي تفضي آخر الأمر إلى تخريب العالم وفناء الخلق فانظروا إلى مخالفة ملك الملوك كيف يكون تأثيرها في زوال المصالح وحصول المفاسد ؟ وتمام تقريره أنه تعالى بين أن الكفر سبب لخراب العالم ، قال تعالى : ( تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا ) [ مريم : 90 ] وبين أن طاعته سبب للمصالح قال تعالى : ( وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى ) [ طه : 132 ] فيا أيها الرعية كونوا مطيعين لملوككم ، ويا أيها الملوك كونوا مطيعين لملك الملوك حتى تنتظم مصالح العالم .
الحكم الخامس : أنه لما وصف نفسه بكونه ملكا ليوم الدين أظهر للعالمين كمال عدله فقال : ( وما ربك بظلام للعبيد ) [ فصلت : 46 ] ثم بين كيفية العدل فقال : ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا ) [ الأنبياء : 47 ] فظهر بهذا أن كونه ملكا حقا ليوم الدين إنما يظهر بسبب العدل ، فإن كان الملك المجازي عادلا كان ملكا حقا وإلا كان ملكا باطلا ، فإن كان ملكا عادلا حقا حصل من بركة عدله الخير والراحة في العالم ، وإن كان ملكا ظالما ارتفع الخير من العالم .
يروى أن أنوشروان خرج إلى الصيد يوما وأوغل في الركض ، وانقطع عن عسكره واستولى العطش عليه ، ووصل إلى بستان فلما دخل ذلك البستان رأى أشجار الرمان فقال لصبي حضر في ذلك البستان : أعطني رمانة واحدة ، فأعطاه رمانة فشقها وأخرج حبها وعصرها فخرج منه ماء كثير فشربه ، وأعجبه ذلك الرمان فعزم على أن يأخذ ذلك البستان من مالكه ثم قال لذلك الصبي : أعطني رمانة أخرى ، فأعطاه فعصرها فخرج منها ماء قليل فشربه فوجده عفصا مؤذيا ، فقال : أيها الصبي لم صار الرمان هكذا ؟ فقال الصبي : لعل ملك البلد عزم على الظلم فلأجل شؤم ظلمه صار الرمان هكذا ، فتاب أنوشروان في قلبه عن ذلك الظلم ، وقال لذلك الصبي : أعطني رمانة أخرى ، فأعطاه فعصرها فوجدها أطيب من الرمانة الأولى ، فقال للصبي : لم بدلت هذه الحالة ؟ فقال الصبي : لعل ملك البلد تاب عن ظلمه ، فلما سمع أنوشروان هذه القصة من ذلك الصبي وكانت مطابقة لأحوال قلبه تاب بالكلية عن الظلم ، فلا جرم بقي اسمه مخلدا في الدنيا بالعدل ، حتى إن من الناس من يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ولدت في زمن الملك العادل " .